![](https://youmgdeed.com/wp-content/uploads/2023/07/361917158_1466478587445071_6578447493205606657_n-780x470.jpg)
غربة.. قصة قصيرة من المجموعة القصصية «نزف الوردة» لـ عزة أبو العز
كانت تؤمن أن قوانين المنطق والعقل وحسن التصرف تقتضى أنه:
“عندما تُكشَف أوراق اللعبة فلابدّ من الإنهاء”.
ولكنها على عكس كل ذلك وجدت نفسها منجذبةً إليه حد التماهي، حتى أصبح كل دنياها بلا نقصان، وهي على يقين أنها جزء من اهتماماته وليس كل اهتمامه، بحكم كوْنه (زوجًا وأبًا وابنًا وأخًا وخالاً) حسب توصيفه لنفسه ذات مرة، وهو يحاول أن يُثْنِيَها عن فكرة الزواج، فتعجَّبت وتساءلت:
أين كانت كل هذه الأدوار وهو يعرض عليها حبه مغلفًا بطوفان من المشاعر الملتهبة كقرص شمس أقحواني يأبى المغيب.
لقد سعى جاهدًا لمد جسور الحرير بين قلبيهما، وهو على دراية كاملة بأنها كالأرض العطشانة لحنانه قبل حبه، ففي الغربة غالبًا ما يأتي الحنان والاهتمام قبل الحب أحيانًا.
ظل يغزل وينسج على مشاعرها تارة، وعلى عقلها تارات، بمهارة لاعب السيرك الذي يسلب العقول بحركاته وتنقلاته الخطرة في لعبة “جديدة قديمة”، لعبة الرجل المغترب، الذي يرغب في الحب ويأبى الزواج في آنٍ.
اكتشفت أنه بعد أن شيد داخلها صرحًا شامخًا من العشق له وحده، ليس له مثيل، تسبب لها في نزف جديد، فلم يقدِّر أنه بهذا الحب الناقص المشروط بعدم الزواج قد زرع فيها بذرة الألم المجيد.
لم يفكر أنه بتلك المسافة الفاصلة بين الحب في المطلق، مع استحالة تتويجه برباط مقدس، يمنحه شرعية الوجود، ويذيب كل ما بينهما من فواصل ومسافات، حتى يرتشفا معًا عذوبة شهد الرضاب، قد وضعها على مذبحة الألم من جديد.
ظلت تتساءل: الأسبوع القادم سيأخذ أجازته السنوية وسيعود إليها، يضم الكون فيها وينساني أو يتناساني.. كيف لا يدرك أن علاقتي به هي علاقة الروح التي تسكن الجسد، ولو غاب عني فإن روحي إلى مغيب؟
تذكَّـرت أنها كانت قاب قوسيْن أو أدنى من الانهيار التام، بعد أن رفض أحمد الزميل والجراح الماهر (خمسيني العمر) طلبها بتتويج قصة حبهما التي أعانتهما على صعاب الغربة وبرودتها الموحشة لمدة عام.
وكم سألت نفسها:
- ما الذي أغراه ليمدّ كل جسور الوصل بينهما عندما رآها لأول مرة وهي تؤدي عملها بمهارة فى قسم جراحة القلب بالمستشفى الخليجي الشهير؟
لم تنكر سماح أمام نفسها اهتمامها به وانجذابها إليه.
فكيف لا تهتم؟
إنه ابن الوطن، وما أحوجها لتشتم رائحة الوطن في شخصه الذكي المتواضع الأليف، ولكنها عندما أرادته كلاًّ مكتملاً، تراجع وتذكر كل تلك الأدوار التي تكبّله بسلاسل العِشرة، ونظرة الأهل، والوسط المحيط، وربما اتخذ كل ذلك وسيلة للهروب،
تعجبت، لأنها لم تسعَ إليْه طواعية، ولم تكن تعلم أنها قادرة على الحب من جديد بعد تجربة زواج فاشلة استنزفتها تمامًا (جسدًا ونفسًا)، مما جعلها تترك وطنها الأم لتذهب بعيدًا عن الأهل والأصدقاء، لعلها في الغربة تنسى ما مر بها من آلام، وتتخلص من نظرات شفقة الأهل والجيران على الطبيبة الناجحة ذات الشخصية الجادة، ذات الأربعين عامًا التي تركها الزوج لعدم قدرتها على الإنجاب، وبعد عناء وتفكير ليلة طويلة بدت بلا فجر، مرت عليها كدهر، حسمت أمرها على مواجهته قبل السفر وقالت:
- لابد من الاختيار: إما الزواج وإما النهاية.
وفى صباح اليوم التالي دخلت عليه مكتبه بالمستشفى قائلة:
- خلاص عزمتَ علَى العودة؟
أَمِنَ العدل أن تُطبِّب أمراض القلوب وتتسبب في جرح قلبي يا طبيب؟
رد أحمد وهو ينظر في عينيها بتركيز شديد، كمن يود تشخيص ما تُبْطنه من نوايا، وما يزعجها ويؤلمها، وجعلها تغير طريقتها معه في الحوار، فدائمًا ما كانت له البلسم، وقال:
- الألم ليس ألمكِ وحدكِ يا سماح، فحبي لك ليس له حدود، ولكن …
بانفعال ردت عليه:
- ولكن ماذا؟ … أدوارك سالفة الذكر؟
قال لها:
- أنت الأقرب لقلبي وروحي و…
قاطعته: أريد أن أكون الأقرب لحضنك، أريد أن أشعر أنني ملكك وحدك، وأنت ملكي تلبي نداء جسدي حينما يدعوك في جوف احتياجي إليك فتُجِيبه.
قال:
- ما بيننا يفوق علاقة الأجساد، فكم من أجساد متجاورة ولكن الهوة بينهما مثل بُعْد كوكبنا عن كوكب المريخ، لا تُصعبي الأمور علينا يا سماح، يكفي أنني لا أشعر بالأمان إلا وأنت بجواري في حجرة العمليات، يكفي أنني اكتفيت بكِ وحدكِ عن كل ما رأتْ عيني من طبيبات حاولن التقرب مني، يكفي أنني أرى فيك وحدك وجه أمي وطيبَتِها، ولولا حياؤك مني لارتميت باكيًا في صدرك الذي أثق أن به أمان صدر أمي.
باكية: وأنا لا أريد من الدنيا سواك ولكن الأنثى بداخلي تثور، وتشتهيكَ، وتتمنَّاكَ.
قال:
-ماذا دهاكِ؟! .. فأنا معك بقلبي وعقلي وروحي.
أرجوك يا سماح لا تزيدي آلامي.
قاطعته بغضب:
- وهل مثلك يتألم؟ ومن أي شيء تتألم؟!!!
وأنت لا مانع لديك أن أكون أنا حبيبة الغربة وهي سكن الوطن!!
قال بحدة:
- لم أُخْفِ زواجي عليك.
همست:
- ولكنك أظهرتَ لي حبًّا وحنانًا جعلاني كالطفلة الصغيرة المدلّلة، ليس لها في الكون سواكَ، تتبع أثرك، وتتعلق بكل تفاصيلك البسيطة، حتى أصبحت مُتَيَّمَةً بِـهواك.
قال: بذلت كل جهدي لأُسْعِدَكِ وأُنْسِيكِ ما فاتَ.
ردت بحسرة: وكيف ستُنْسِيني آلامَ ما هو آتٍ؟
بحسم: لا، لا آلام، سأنزل إجازتي، وأعود سريعًا إليك.
ابتسمت، وقالت: آه، انزلْ، أَمْتِعْ، واستَمْتِعْ كما تشاءُ، وعندما تعود تجد سكن غربتك متاحًا لكَ في كل الأوقات .
قال: هذه سماح حبيبتي المتسامحة، وطفلتي الناضجة التي اعتادت أن تُريحني من كل المنغصات، سأنزل الإجازة، وكالعادة يا سماح ما بيننا أقوى من البُعد والمسافات.
ودَّعَتْهُ بَاكيَةً ثمّ لملمت عبَراتها ومشاعرها المُبعثرة وأنَّات قلبها النازِف وقرَّرَت الآتِي…
القاهرة ٢٠سبتمبر ٢٠٢٠م